٥ شوال ١٤٢٨ هـ

الدكتــورة أمل

جلست فى صمت تستمع الى حديث زميلاتها وزملائها الأطباء فى قسم طوارئ الباطنة
كانت تشعر بصداع يكاد يفجر رأسها , ولولا أنها مضطرة للجلوس حتى إنهاء ورديتـها
الليلية لكانت تركت المستشفى وذهبت إلى بيتها

انها غير راضية على الإطلاق بكل ما يحدث حولها فى القسم , فها هو عنبر المرضــي
ممتلئ عن آخره , وكأنما البلاد فى حالة حرب وهم ضحاياها , وها هى آهات التوجــع
والألم تعلو وتعلو فى كل مكان , لا يقطعها سوي صراخ أهل مريض توفــــــاه الله بعـد
دخوله للقسم , وكأن شبح الموت يطوف بالمكان جيئةً وذهاباً بحثا عن أحد المرضى قــد
جاء أجله

كانت تشعر بأن قسم الطوارئ إجمالا لا يصلح لعلاج البشر , فلا معدات سليمـــة , ولا
قسم تمريض كفء , ولا أسرَة نظيفة , ولا حتى سرعة فى التعامل مع الحالات التـــي
يمكن أن تكون الدقيقة هى الفيصل بين حياتهم أو مماتهم , أنها تكره هذا المكان وتكـــره
الظروف التى أتت بها اليه , غير أن عدم وجود أى صلاحية لها فى هذا المكان يجعلـهـا
تكتم غضبها بداخلها , فهى فى الأصل طالبة فى الإمتياز ووجودها هنا كان فقط لمجــرد
التعليم وليس لادارة المكان

وكان أكثر ما يضايقها هو قسوة رئيسة القسم وزملائها فى التعامل مع أهل المرضى , كان
أفضل ما يجيبوا به على غضب الناس هو : قدامكم المستشفيات الخاصة , روحوا اتعالجوا
فيها
مالك يا دكتورة أمل ؟
خطفها السؤال الذى ألقاه عليها زميلها الطبيب مما كانت تفكر فيه , حاولت أن تبتلع ريقها
بصعوبة قبل أن تجيبه بأى شئ , ولكن فجأة اقتحم المكتب شاب ظهر فى ملامحه حــالات
من الهلع والغضب و دخل يصرخ فى وجوههم : فين مديرة الزفت اللى هنا ؟
ردت عليه الطبيبة رئيسة القسم بغضب وبصوت عال : ايه يا استاذ ده , انت ازاى
تدخل كده , اتفضل اطلع بره , مفيش حد اسمه مديرة زفت هنا
نظر اليها الشاب وغضب الدنيا فى ملامحه وقال : شوفوا كلكم , الراجل اللى جـــه من
ساعتين فى القسم فى غيبوبة ما حدش قاله نهارك اسود , ومفيش حد حتى عرفنا حالته
ايه أو عنده ايه أو حيروح فين , والمفترض انه يتحول مباشرة للعناية المركـــــــزة مش
يفضل هنا لغاية ما يموت
قاطعته رئيسة القسم : قلنا قبل كده لازم نستنى لما دكتور المخ والاعصاب يشوفه الأول
ثم إن مفيش مكان فاضي فى العناية أصلاً

رد الشاب : خلاص مش عايز حجج فارغة , اللى حقوله كلمتين وانتم أحرار , الراجــل
ده على قد حاله وفى رقبته اربع بنات صغيرين ولو مات ذنبه وذنب عياله فى رقبتكـــــم
وحسبنا الله ونعم الوكيل فيكم
وخرج الشاب دافعا وراءه الباب بعنف .

وكـأن شيئا لم يكن , جلس الأطباء بكل هدوء يكملوا حديثهم فى حين أمسكت الدكــتورة
أمل رأسها بيديها الاثنين محاولة منعه من الانفجار , فما تراه من أحداث بالنسبة لها هو
تعذيب وليس عمل , ولما أحست أن رأسها يدور وأنها على وشك الوقوع على الأرض
تركت الغرفة وخرجت , و أثناء تحركها من أمام عنبر استقبال المرضى وجدت الشــاب
الذى رأته منذ قليل جالسا فى صمت وعينه تنظر الى لا شـــــــئ , اقتربــــت منه وقالت
له : على فكرة يا استاذ الكلام فى المستشفى دى مش بيجيب نتيجة , أنصحك تشــوف أى
وسطة هنا , دكتور مثلا فى الجامعة أو أى مسئول كبير , دا اللى ممكن يتصرف ويدخل
مريضك حالا للعناية المركزة وياخد افضل رعاية

لم تتحرك عين الشاب حتى لترى من يحدثه لكنه قال فى صوت منخفض : مات

انهارت أعصاب الدكتورة أمل رغم انها ليست أول مرة تسمع عن حالة وفاة فى القســــــم
فقد مات الكثيرون أمامها , لكن مقدار الحزن الممتزج باليأس والظلم فى عين الشاب جعلها
تشعر بأنها تعيش أسوأ كابوس فى حياتها , وبدون أن تشعر بما تفعله انطلقت تجرى إلـــى
خارج المستشفى بكل قوتهـــــــا وليس فى رأسها الا قرارا أخذتـــــــــــــــه بلا رجعة فيه
هو انها لن تعود إلى هذا المكان مرة أخرى

هناك ١٦ تعليقًا:

غير معرف يقول...

بجد قصه جميله تحياتى

على باب الله يقول...

جميلة جداً جداً

مميز كعادتك

--

و يا رب يكون فيه أمل

و يتحل - و لو جزء - من مشكلة الدكتورة أمل

أمــانــى يقول...

ياريت فى زيها عشرة ولكن دون صمت وانما عدم السكوت عن الحق
لكى ترتاح من هذا الصداع والالم ولكى لا تقول ياليتنى فعلت وفعلت
وربنــا كريم

loumi يقول...

العزيز صاحب البرديه
جيت أرد الزياره
أولاً
مبروك عليك المدونه جميله فعلاً
ثانياً
موضوعاتك شيقه ومتنوعه
هي فيها قسوة
بس هي الحياه كده فعلاً
بس يا ريت تحاول تعمل أي شىء من موقعها للغلابه دول لو تقدر بدل ما تسيبهم وتمشي ولو ما قدرتش يبقا يكفيها شرف المحاوله زي ما بيقولوا

تحياتي
ومبروك البرديه

Tamer Nabil Moussa يقول...

قصة واقعية

تجدها فى كل ركن ومكان من بلدنا العزيز

تحياتى

أحمد سلامــة يقول...

مشكلة حقيقية فعلا التعامل مع الاماكن دي باعتبار ان الواحد مش بيكون في في ايده حاجة لانة لا يملك اتخاذ القرارات سوى بالرحيل
اتمنى تكون مجرد قصة
تحياتي لك

قطوف يقول...

قصه واقعيه وبتحصل كل يوم بس هنعمل ايه
أسلوبك جميل أوى
بس هل مغزي القصه هو الرحي من البلد دى

Unknown يقول...

ما ابشع الموت وخاصة لو كان بسبب اهمال او ظلم
للمريض الفقير ربنا

كاميليا بهاء الدين يقول...

قصصك جميلة اوى
ومتنوعة ،، فيها شجن جميل

المدونة كلها حلوة

البرديــــــة المصرية يقول...

رئيس جمهورية نفسي
شكرا لزيارتك يا رئيسي
نرجو تكرار الزيارة

على باب الله
الدكتورة أمل باعت القضية وخلاص مش عايزة حلول


أمانى
بقالك شهر ما كتبتيش كلمة
خيرا يا بنت الجنوب


loumi
البردية اتشرفت بزيارتك ليها
بخصوص قسوة القصة , مش قاسية أوى ولا حاجة , فيه قصص اسوأ جوه مستشفيات مصر اللا آدمية بدءا من مستشفى الجامعة فى اسكندرية مرورا بدمنهور ولو عديتى على معهد الكبد فى شبين وممكن تفوتى على مستشفيات الاقاليم كلها
هناك تراجيديا مؤلمة , لكن للاسف احنا فى بلد كل واحد فيها يغنى على ليلاه بس

تحياتى ليكى وشكرا للمجاملة اللطيفة


تامر نبيل
شكرا للزيارة يا اخ نبيل ونرجو دوام المتابعة

احمد سلامة
رجاءك صعب يا غالى
القصة جزء كبير منها حقيقى
ونورت البردية المصرية


سي السيد
شكرا لمتابعتك للبريدة اولا , طبعا انا مش قاصد الرحيل من البلد ولا حاجة ,
لكن اللى بيحصل وبنشوفه ان أى شخص محترم عايز يشتغل بضمير بيلاقى صعوبة ان يعمل ده فى مصر لاسباب كتير , بيكون قدامه تلات حلول
اما يسبح مع التيار
او يسبح ضد التيار
أو يريح نفسه ويطلع بره المياه خالص


ايوية
كلمة جميلة
للفقير ربنا
شكرا للمتابعة ونرجو التواصل

كاميليا
البردية جميلة بحضوركم وتعليقاتكم
وتحياتى ليكى

MKSARAT - SAYED SAAD يقول...

واقعى جدا جدا جدا
تحياتي لصراحتك في الكتابة

Unknown يقول...

أيام الامتياز

الواحد كان بررررررئ

وكان هاين عليا اقعد اعيط مع العيانين

دلوقت مش أبو لهب يعني

بس كتر التعود يخدر الشعور

عشت هذه القصة مئات المرات

و مازلت

تحياتي

abderrahman يقول...

وفي المستشفيات الخاصة أيضا قصص من نفس النوعية لا تراعي آدمية المريض وأحاسيسه
:(

يا مراكبي يقول...

كان لازم بطلة القصة تعمل كده .. لازم

أنا لو مكانها كنت عملت كده .. ومن زمان

نهاية منطقية جدا .. والأحداث متسلسلة بعناية

تحياتي

dr.Roufy يقول...

قصة ..جميلة فعلا..
تروي واقع أعرف انه موجود..وأقترب منه في كثير من الأحيان

تعايشت مع الدكتورة أمل تماما
فلا سبيل الا الهروب..بلا توقف

تحياتي

البرديــــــة المصرية يقول...

الإخوة الأعزاء
سيد سعد
شكرا لزيارتك لبرديتى المتواضعة , وشكرا لأنك من النوع المحب للصراحة




أنونيمس
مش عارف أقوللك ايه يا دكتور
غير الله يعينك



عبده باشا
عندك حق , الظاهر انه وباء



يا مراكبي
وأنا زيك يا باشمهندس



دكتورة روفي
اهلا بيكى فى البردية المصرية
كتاباتك جميلة وواقعية أكثر وهو ما أعجبنى فيها
تحياتى لك